الجمعة، 15 مايو 2015

ملاحظة

ملاحظة:


في نظرة معيّنة كانت بتبقى على وش بابا وهو بيكتبلي اللوحات بتاعت أعمال الفصل في ابتدائي وإعدادي بالقلم الماركر، اللوحات اللى كانت بتبقى عبارة عن كام بيت شعر من كتاب المدرسة مكتوبين بخط كويس ـ نسخ في الغالب ـ وألزق صورة قاصصها من مجلّة مثلا، أو خريطة، جنبهم على فرخ ورق كارتون.. ويتكتب تحتها "عمل الطالب: حاتم محمد عرفة ـ تالتة أول ـ بلا بلا بلا .."

حاول تتخيل معايا المشهد كده، والدي بيكتب بالشمال، الأب على السفرة العملاقة قصاد الفرخ العملاق، متر ورق يعني كان بيبقى طول الابن تقريبا! طفل ضئيل الحجم جدا مابتداش في طوله المفاجيء ده غير في أواخر إعدادي، كانت في نكتة عني في البيت انى لما بخش أنام بيحتاجوا يجيبولي بنطلون جديد بمقاس أكبر، علشان على ما أصحى بيكون بنطلوني قصر عليا!

قبل كل الكلام ده كنت نموذج بل وأنموذج للطفل القلّة، اللي كان ممكن يقعد رابع في أي تختة بتاخد تلاتة، من غير ما حد ياخد باله!
كنت بشبّ وانا قاعد/واقف جنبه عشان أشوف الحروف من ورا كف ايده وهي بتتكتب، مش بعرف، وفي نفس الوقت مكنتش بحاول أعدّي أشوفها من يمينه عشان هاتبقى مسااافة، ولا من قدامه عشان مش عاوز أشوفها مقلوبة، وأبويا مش هيتحوّل لرسمة تو دي يعني عشان أعرف أشوفها وهو بيكتبها! دايما كنت بابقى قريب من إيده، كام مرة في البدايات خبطتها أو هزّيت السفرة من غير ما أقصد، مش فاكر مرة إنه انفعل عليا، وكان كفاية إنه يشاور على شكل الحرف اللى باظ على الورقة وسط صف الحروف الأنيقة، عشان آخد بالي بعد كده وانا بتحرّك جنبه، ويبدأ في إعادة اللوحة من جديد بهدوء، كأنه عطس مثلا! وأتعوّد لهفتي للرؤية ماتغيّرش من هيئة تمثال الشمع اللى بقيت بتّخذه وانا بتفرّج..
كان بيبقى مركّز جدا، ماينفعش يشرحلي ويكتب في نفس الوقت، حسب القواعد الكلاسيكيّة فالخطاط بيكتم نَفَسه أثناء الكتابة، وبياخد نَفَسه لمّا يتوقف بين الحرف والحرف، أو بين المقطع والمقطع، عشان لو اتنفس أثناء الكتابة احتمال ايده تتهزّ ولو جزء من المللي بيفرق، كان بيبقى صعّب فعلا إني أقرا اللى بيكتبه في لحظتها، دايما متأخّر شوية على ما تتحرك ايده ويظهر الحرف، أوقات كتيرة ماكنتش بابص على القلم وأبصّله هو، مكنتش بفهم إيه اللى بيخلّيه يهتم بالموضوع بالقدر ده!
مهندس كبير بيرجع من شغله باين عليه التعب، وانا من الساعة 2 معاد رجوعي، للساعة 4 معاد رجوعه بكون حضّرت الحاجة اللى هتتعمل، جبت كام فرخ الورق، وجهّزت الصور، واللزق، والاقلام، ومستني بلهفة أشوف اللى هيعمله، الحاجة الوحيدة على الإطلاق اللى كانت ـ ومازالت ـ ممكن تنسّيني الأكل، كنت بابقى عاوزه يعملها حالا بطريقة (دي مش هتاخد في ايدك دقيقتين) الشهيرة، لكنه كان لازم ياكل، ويستريّح، أحيانا يأخذ قيلولته أو يتفرّج على التلفزيون أو يقرا أو أو .. بس عمره ما كان بينسى، كان ممكن أنا أسهى عن الموضوع وأفاجأ بيه سبقني على السفرة وبدأ يشتغل، ليه كان بيدّي للموضوع الأهمية دي؟ مش عارف، لمعة في عينيه في منتهى الحدّة وهو شغال مكنتش بفهمها، حب ووله وانصهار في اللى بيعمله وحاجات كتير ماكنتش بعرف أترجمها،
النهاردة وانا بتفرّج على صوري في افنت في جامعة هنا كنت باكتب فيه أسامي الطلبة بالخط العربي، صديقي المحترف جاب الله لقط صورة لي من يساري، بزاوية منخفضة، زاوية الطفل اللى كان بينظر لوالده، نفس الزاوية اللى فاجئتني وأسقطتني في بحر النوستالجيا هذا، شوفت في عينيا نفس البصة إياها بتاعة بابا اللى لسه مافهمتهاش، باختلاف الشكل العام والتفاصيل والسن، بس كانت نفس النظرة بالظبط بنفس اللمعة وأقسم على هذا..
من بين حاجات كتير حصلت أو هتحصل، فالملاحظة دي هتفضل أكتر شيء مطمئن ليا لفترة طويلة..


ليست هناك تعليقات: